أبريل 2017

مؤتمر الأزهر العالمي للسلام

الإمام الأكبر أ.د: أحمد الطيب.png
يعيش المجتمع الإنساني في وقتنا الراهن أزماتٍ طاحنةً تهدد وجودنا البشري، وتهدم جوهر الحياة الإنسانية؛ أزماتٍ أخلاقيةً وفكريةً تجسدت في صورة صراعاتٍ دمويةٍ مسلحةٍ تقتل أسمى مخلوقٍ، وتنتهك حقوقه وكرامته التي يستمدها من الله جل جلاله.. ولا ريب أن هذه الصراعات واستفحالها بالشكل الذي نراه حاليا، يناقض القيم الدينية العليا والمثل الإنسانية.
 
وحيث إن العمل من أجل تحقيق العدل والسلام ضرورةٌ إنسانيةٌ، وليس مجرد مطلبٍ لعقيدةٍ بعينها أو فلسفةٍ بذاتها، بل هو هدفٌ للإنسانية جمعاء، وأساسٌ لحضارتها وتقدمها، الأمر الذي يحملنا جميعًا مسئولية العمل معًا من أجل تحقيق هذه القيم المشتركة السامية.
 
ومع اتساع دائرة الحروب والعنف، وشيوع الإرهاب والطائفية، دعا فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف إلى تحكيم صوت العقل وبذل قصارى جهدنا لإزالة أسباب الشقاء، وأن نسعى إلى التعاون بدلًا من التناحر، والاحترام بدلًا من الإقصاء، والسلام بدلًا من التقاتل، والسماحة بدلًا من التشدد، انطلاقًا من أن التعايش مقصدٌ ورسالةٌ جاءت بها جميع الأديان.
 
ومن هذا المنطلق دعا فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إلى عقد مؤتمر عالمي يومي 27 -28 أبريل من العام 2017، حضره قداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، وذلك خلال زيارته التاريخية لمصر، تحت عنوان "مؤتمر الأزهر العالمي للسلام" ليؤكد على أن السعي إلى تحقيق السلام العادل بين بني البشر، والقضاء على أسباب الفقر والمرض والعنف والكراهية - إنما هو فريضةٌ واجبةٌ علينا جميعًا من كل الديانات والثقافات.
 
وأعلن الإمام الطيب أن الهدف المنشود من هذا المؤتمر العالمي هو التلاقي حول الأسس الإنسانية الجامعة، التي تحقق السلام بين البشر على اختلاف أديانهم وعقائدهم وأعراقهم وأجناسهم، ولا ريب أن هدفًا كهذا يتطلب تضافر جهود رموز الأديان وعلمائها، وقادة الفكر والثقافة، وصناع القرار والمؤسسات الدولية، التي يمكنها إقرار هذه المبادئ التي تحقق هذه الرؤية؛ حيث إن السلام العادل والدائم لا يمكن أن يتحقق من دون استئصال أسباب الصراع والعنف والكراهية، ونزع فتائل التوترات التي تنشأ هنا أو هناك، فلا فائدة من علاج العرض والتغافل عن أصل الداء.
 
من أجل ذلك قرر فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إقامة هذا المؤتمر ليوجه رسالةً مشتركةً للعالم كله بأن ممثلي الأديان المجتمعين في رحاب الأزهر الشريف يجمعون على الدعوة إلى السلام بين قادة الأديان والمجتمعات ودول العالم كلها، ويؤكدون، انطلاقًا من الثقة المتبادلة بينهم، على دعوة أتباع الأديان للاقتداء بهم، والعمل بهذه الدعوة يدًا واحدةً من أجل نبذ كل أسباب التعصب والكراهية، وترسيخ ثقافة المحبة والرحمة والسلام.
 
كلمة الإمام الأكبر
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛
 
أصحاب الفخامة والغبطة والنيافة من رجالات الكنائس الشرقية والغربية..
أصحاب السماحة والفضيلة!
 
السيدات والسادة!
 
أهلًا بحضراتكم، ومرحبًا بكم جميعًا، ونشكركم جزيل الشكر؛ لتكرمكم بتلبية دعوة الأزهر ومجلس حكماء المسلمين لـ: «مؤتمر الأزهر العالمي للسلام»، وليس مؤتمرنا هذا بأول مؤتمر يعقد للبحث في هذه القضية، وأكبر الظن أنه لن يكون المؤتمر الأخير الذي يناقشها، وإني إذ يشرفني أن أكون من بين السادة المتحدثين في هذه الافتتاحية، فإني أشعر بأن موضوع «السلام العالمي»، رغم كل ما قيل فيه فإنه يبدو وكأنه بحاجةٍ إلى المزيد من المتابعة والتحليل والبحث، وما ذلك إلا لأن مفهوم «السلام العالمي» أمسى وكأنه من أعقد الألغاز وأشدها استعصاءً على أي عقل يتقيد بشيءٍ من قواعد المنطق وبدهيات الفكر؛ نتيجة «التيه» الذي تضل فيه الفروض وتضطرب في عتمته الأقيسة والحجج.
 
ويبدو أن «السلام» لم يعد هو القاعدة في حياة البشرية كما يذهب إلى ذلك أنصار نظرية السلام من فلاسفة التاريخ، الذين يؤكدون على أن «السلام» هو القاعدة في حياة البشر، وأن الحرب والعنف استثناءٌ وشذوذٌ عن القاعدة، ولعل أصحاب نظرية الحرب كانوا أبعد نظرًا وهم يقررون: «أن التاريخ البشري إنما هو تاريخ بحيراتٍ دمويةٍ... والتاريخ ينبئنا أن الإنسانية لم تنعم دهرًا طويلًا بالعيش في ظل سلامٍ كاملٍ ودائمٍ، حتى إن بعض الكتاب الأمريكيين ليسجل أن البشرية عبر تاريخها المكتوب والذي يبلغ قرابة ثلاثة آلاف ونصف عام، فإن: 268 سنة فقط سادها السلام، أما باقي السنوات فقد كانت مشغولةً بالحروب، ومن هنا استنتج جورج ويل George Will، الكاتب الأمريكي المعروف: أن السلام عاجزٌ عن أن يحمي نفسه بدون حربٍ».
 
ولا شك أن هذا المد والجزر في رصد مفهوم السلام يغري كثيرين بالبحث عنه في مصادر أخرى متعالية، أو بعبارةٍ أخرى: في مصادر عابرةٍ للزمان والمكان، لا تتأثر بوحي البيئة، ولا بالظروف الخاصة والملابسات التاريخية المتغيرة، وأعني بالمصدر المتعالي فوق التغير والذاتية والمنفعة والغرض وقصر الفكر والنظر، أعني به: الأديان الإلهية ونصوصها المقدسة، التي نفزع إليها الآن كما تفزع الطيور المذعورة إلى أعشاشها الآمنة الحصينة..
واسمحوا لي حضرات السيدات والسادة أن أتخلص من هذه المقدمة، التي أراها طالت قليلًا، إلى كلمةٍ موجزةٍ عن «فلسفة السلام في الإسلام»، الذي أعتنقه دينًا أهتدي بنوره في معرفة الحق في مجال الفكر والخير في مجال العمل والسلوك.. وأقرر بداية أن كل ما يقال عن الإسلام في شأن السلام يقال مثله تمامًا عن المسيحية واليهودية، لا أقول ذلك مجاملةً لحضراتكم، وإن كانت مجاملتكم مما يحمد في هذا المقام، ولكن لأن عقيدتي التي تلقيتها من القرآن الكريم تعلمني- كمسلمٍ- أن رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ليست دينًا منفصلًا مستقلا عن رسالة عيسى وموسى وإبراهيم ونوح عليهم السلام؛ وإنما هو حلقةٌ أخيرةٌ في سلسلة الدين الإلهي الواحد الذي بدأ بآدم وانتهى بنبي الإسلام، وأن هذه الرسالات من أولها إلى آخرها تتطابق في محتواها ومضمونها ولا تختلف إلا في باب التشريعات العملية المتغيرة، فلكل رسالة شريعة عملية تناسب زمانها ومكانها والمؤمنين بها..
 
ويضيق الوقت عن الاستشهاد بالآيات التي تؤكد على أن ما أوحاه الله إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو عين ما أوحاه إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام.
 
وهو ما يفسر لنا اتفاق الأديان على أمهات الفضائل وكرائم الأخلاق، وتغريد الوصايا العشر، وموعظة الجبل والآيات التي تعني بالوصايا ذاتها، تغريدها كلها في سرب واحد ولغة شعورية واحدة.
 
أما عن تصور «فلسفة السلام في الإسلام»، فأستسمحكم في عرضها في شكل رسائل يترتب بعضها على بعض ترتيبًا منطقيًّا.. هذه الرسائل هي:
 
أن القرآن الكريم يقرر حقيقة الاختلاف بين الناس دينًا واعتقادًا ولغةً ولونًا، وأن إرادة الله شاءت أن يخلق عباده مختلفين، وأن «الاختلاف» هو سنة الله في عباده التي لا تتبدل ولا تزول إلى أن تزول الدنيا وما عليها.
 
يترتب على حقيقة الاختلاف في الدين منطقيًّا حق «حرية الاعتقاد»؛ لأن حرية الاعتقاد، مع الاختلاف في الدين، يمثل وجهين لعملةٍ واحدة، وحرية الاعتقاد تستلزم بالضرورة نفي الإكراه على الدين، والقرآن صريحٌ في تقرير حرية الاعتقاد مع ما يلزمه من نفي الإكراه على العقائد.
 
وحين ننتقل إلى تكييف العلاقة بين المختلفين عقيدةً، والأحرار في اختيار عقائدهم، نجد القرآن صريحًا في تحديد هذه العلاقة بإطارين:
 
الأول: إطار الحوار، وليس أي حوار، بل هو الحوار الطيب المهذب وبخاصةٍ إذا كان حوار المسلم مع مسيحي أو يهودي: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].
 
 
الإطار الثاني: إطار التعارف الذي يعني التفاهم والتعاون والتأثير والتأثر، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] ذكرنا الله تعالى في الآية بوحدة الأصل أولًا ثم ذكرنا بما يناسب هذه الوحدة من صلة التعارف.
 
 
يتضح لنا أيها الإخوة أن القرآن يحدد العلاقة بين الناس في علاقة «التعارف» التي هي نتيجة منطقية لطبيعة الاختلاف وحرية الاعتقاد.
 
 
أما الحرب في الإسلام فهي ضرورة، واستثناء يلجأ إليه حين لا يكون منه بدٌ، وهذه هي نصيحة نبي الإسلام: «لا تَتَمنَّوا لقاءَ العدوِّ وسَلُوا اللهَ العافيةَ». وليست الحرب في الإسلام هجومية، بل دفاعية، وأول تشريع يبيح للمسلمين إعلان الحرب ورفع السلاح تشريع معلَّل بدفع الظلم والدفاع عن المظلومين {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، ومشروعية الحرب في الإسلام ليست قاصرةً على الدفاع عن المساجد فقط، بل مشروعة بالقدر ذاته للدفاع عن الكنائس وعن معابد اليهود، وإن تعجب فاعجب لدينٍ يدفع أبناءه ليقاتلوا من أجل تأمين أهل الأديان الإلهية الأخرى، وتأمين أماكن عباداتهم..
 
والسؤال الذي يثير حيرة الكثيرين وهو: لماذا قاتل الإسلام غير المسلمين؟
 
والجواب: لم يقاتلهم أبدًا تحت بند «كفار»، كيف والقرآن الذي يحمله المسلمون معهم في حروبهم يقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، وكيف يشن الإسلام حربًا من أجل إدخال الآخرين في الدين كرهًا، والقرآن يقرر: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.. إن الإسلام لا يقاتل تحت بند الكفر، بل تحت بند العدوان، وتحت هذا البند لا يبالي القرآن إن كان يقاتل معتدين كفارًا أو معتدين مؤمنين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9].
 
هذا التنظير السريع المبنيُّ على نصوص مقدسة شديدة الوضوح تبرهن على أن الإسلام دين سلام وليس دين عدوان، ونقول مرة ثانية: إنَّ الأديان الإلهية كلها سواءٌ في هذا التأصيل المحوري لقضية السلام.
 
وتبقى بعد ذلك تساؤلات أختم بها كلمتي، وهي:
 
إذا كانت نصوص الإسلام التي ذكرت بعضًا منها تكشف عن انفتاح هذا الدين على الآخر واحترامه واحترام عقائده، فكيف يصح في الأذهان وصفه بأنه «دين الإرهاب»؟ وإذا قيل: هو دين إرهابٍ لأن الذين يمارسون الإرهاب مسلمون؟ فهلا يقال: إن المسيحية دين إرهاب لأن الإرهاب مورس باسمها هي الأخرى؟! وهلا يقال: إن اليهودية دين إرهاب لأن فظائع وبشاعاتٍ ارتكبت باسمها كذلك؟ وإذا قيل: لا تحاكموا الأديان بجرائم بعض المؤمنين بها، فلماذا لا يقال ذلك على الإسلام؟ ولماذا الإصرار على بقائه أسيرًا في سجن الإسلاموفوبيا ظلمًا وبهتانًا وزورًا؟
 
وهل من الممكن، أيها السيدات والسادة، أن نستغل هذا المؤتمر النادر لنعلن للناس أن الأديان بريئة من تهمة الإرهاب؟ وهل يمكن أن نشير فيه- ولو على استحياء- إلى أن الإرهاب الأسود الذي يحصد أرواح المسلمين في الشرق، أيا كان اسمه ولقبه واللافتة التي يرفعها، لا تعود أسبابه إلى شريعة الإسلام ولا إلى قرآن المسلمين، وإنما ترجع أسبابه البعيدة إلى سياسات كبرى جائرة اعتادت التسلط والهيمنة والكيل بمكيالين؟
شـكــرًا وأعتذر عن الإطالة. 
 
والسلام علـــيكم ورحمـة الله وبركاته.
 
 
 
كلمة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، خلال ختام المؤتمر العالمي للسلام بحضور البابا فرنسيس بابا الفاتيكان
ندوات ومؤتمرات

اشترك لمتابعة الأخبار

جميع الحقوق محفوظة لموقع الإمام الطيب 2024