فبراير 2019

مؤتمر الأخوة الإنسانية

الإمام الأكبر أ.د: أحمد الطيب.png
أولى فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر اهتمامًا كبيرًا بقضايا الحوار والتسامح والإخاء والسَّلام، وقد قدَّم فضيلته للعالم أُنموذجًا عَمَليًّا لتطبيق هذه القِيَمِ الإنسانيَّة على أرض الواقع، عندما أعلن عن تأسيس "بيت العائلة المصرية" الذي يجمع بين المسلمين والمسيحيين في مصر تحت مظلة واحدة؛ بهدف الحفاظ على النسيج الوطني، فضلًا عن دعواته المستمرة في كثير من دول العالم للتعايش والتسامح والإخاء.
 
وإيمانًا من فضيلته بأنَّ الأديان ما جاءت إلا لتحقيق الخير للبشرية جمعاء، وأنَّ السَّلام يجب أن يَسُود أرجاءَ العالم وينعم به كلُّ بني البَشَرِ، وأن ذلك لا يتَحقَّق إلا بإرادةٍ قويَّة وإيمان راسخ بهذه الثوابت، وبرغبةٍ صادقةٍ ومسئوليةٍ مشتركةٍ من كل أبناء الأسرة الإنسانية.
 
وفي زيارة قام بها فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر لأخيه البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، وعلى مائدة كريمة كان فضيلته ضيفًا فيها على أخيه البابا فرنسيس بمنزله العامر، ولدت فكرة وثيقة الأخوة الإنسانية، حيث ألقى بها أحد الشباب الحاضرين على هذه المائدة المباركة، ولقيت ترحيبًا واستحسانًا كريمًا من قداسته البابا، ودعمًا وتأييدًا من فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، وذلك بعد حوارات عدة تأملا فيها أوضاع العالم وأحواله، ومآسي القتلى والفقراء والبؤساء والأرامل واليتامى والمظلومين والخائفين، والفارين من ديارهم وأوطانهم وأهليهم، والتفكير، في الذي يمكن أن تقدمه الأديان الإلهية كطوق نجاة لهؤلاء التعساء.
 
وما إن انتهى اللقاء أعلنا معًا عن عقد مؤتمرٍ عالميٍّ في 3-4 فبرايرمن العام 2019م، تحت عنوان "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية" احتضنته، العاصمة الإماراتيَّة أبو ظبي، بحضور الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، وعدد كبير من قادة الأديان، ونُخبةٍ من أهم الشخصيَّات الفكريَّة والثقافيَّة والإعلاميَّة من جميع أنحاء العالم؛ بهدف الوصول إلى صيغةٍ مشتركةٍ للتعاون مع مُحبِّي السلام حول العالم من أجل تحقيق الأخوة الإنسانية.
 
وكان من أبرز مخرجات هذا المؤتمر هو توقيع وثيقة «الأخوة الإنسانية»، بين الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وقداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، وجرى العمل بها لتكونَ إعلانًا مشتركًا عن نوايا صالحة وصادقة من أجل دعوة كلِّ مَن يحملون في قلوبهم إيمانًا بالله وإيمانًا بالأخوة الإنسانية، أن يتوحدوا ويعملوا معًا من أجل أن تصبح هذه الوثيقة دليلًا للأجيالِ القادمة يأخذهم إلى ثقافة الاحترام المتبادل.
 
وحَظِيتْ تلك الوثيقة بإشادات دولية وانتشار واسع، حيث إنها تعد أهم وثيقة تاريخية في العصر الحديث؛ نظرًا لتوقيعها بين أهم وأكبر رمزين دينيين في العالم، فضلًا عن كونها خطوة عملية ومهمة في تعزيز العلاقات الإنسانية، وبناء جسور التواصل والتآلف والمحبة بين المجتمعات الإنسانية كافة.
 
كلمة الإمام الأكبر
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
أخي وصديقي العزيز/ قداسـة البابا فرنسـيـس – بابا الكنيسة الكاثوليكية
الأخ العزيز سمو الشيخ/ محمد بن زايد وأخيه سمو الشيخ محمد بن راشد، وإخوته قادة دولة الإمارات العربية المتحدة
 
 
السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه.. وبعد/
 
 
فأبدأُ كلمتي بتوجيه الشكر الجزيل لدولة الإمارات العربية المتحدة: قيادةً وشعبًا، لاستضافة هذا الحدث التاريخي، الذي يجمع قادة الأديان، وعُلماءها ورجال الكنائس، ورجال السياسة والفِكْر والأدب والإعلام.. هذه الكوكبة العالمية التي تجتمع اليوم على أرض "أبو ظبي" الطيِّبة، ليشهدوا مع العالم كله إطلاق «وثيقة الأخوة الإنسانية» وما تتضمنه من دعوة لنشرِ ثقافة السلام واحترام الغير وتحقيق الرفاهية للبشريَّةِ جمعاء، بديلًا من ثقافة الكراهية والظلم والعُنف والدِّماء، ولتطالب قادة العالَم وصُنَّاع السياسات، ومَن بأيديهم مصائر الشعوب وموازين القُوى العسكريَّة والاقتصادية- تطالبهم بالتدخل الفوري لوقف نزيف الدِّماء، وإزهاق الأرواح البريئة، ووضع نهايةٍ فورية لما تشهده من صراعات وفِتَن وحروب عبثيَّة أوشكت أن تعود بنا إلى تراجع حضاري بائس ينذر باندلاع حرب عالمية ثالثة.
 
 
الحفــل الكــريم!
 
 
إنني أنتمي إلى جيل يُمكن أن يُسمَّى بـ«جيل الحروب»، بكل ما تحمله هذه الكلمة من خوف ورُعب ومُعاناة، فلا زلت أذكُر حديث النَّاس- عقب الحرب العالميَّة الثانية- عن أهوال الحرب وما خلَّفته من دمار وخراب، وما كدت أبلغ العاشرة من عُمري حتى دهمتنا حرب العدوان الثلاثي في أكتوبر 1956م، ورأيت بعيني قصف الطائرات لمطار مدينتي مدينة الأقصر، وكيف عِشنا ليالي في ظلامٍ دامس لا يغمض لنا فيها جفن حتى الصباح، وكيف كنا نهرعُ إلى المغارات لنحتمي بها في جُنْح الظلام، ولا تزال الذاكرة تختزن من هذه الذكريات الأليمة ما يعيدها جَذَعًا كأن لم يَمُرَّ عليها أكثر من ستين عامًا.. ولم يمض على هذه الحرب سنوات عشر حتى اندلعت حرب 1967م، وكانت أشد وأقسى من سابقتها، عِشناها بكل مآسيها، وعشنا بعدها ست سنوات فيما يُسمَّى بـ«اقتصادِ الحروب»، ولم نتنفَّس الصعداء إلَّا مع انتصار 73 في حرب التحرير التي أعادت للعرب جميعًا كرامتهم، وبعثت فيهم مكامن العِزَّة والإباء، والقُدرة على دحر الظلم وأهله، وكسر شوكة العدوان والمعتدين.. وظننا وقتها أننا ودعنا عهد الحروب، وبدأنا عصر السَّلام والأمان والإنتاج.
 
 
لكن الأمر سُرعان ما تبدَّل بعد ذلك حين واجهتنا موجة جديدة من حرب خبيثة تُسمَّى «الإرهاب»، بدأت في التسعينيات، ثم استفحل أمرها بعد ذلك حتى أصبحت اليوم تقض مضاجع العالَم شرقًا وغربًا
 
 
وكان الأمل أن تطُل علينا الألفية الثالثة، وقد انحسرت موجات العنف والإرهاب وقتلِ الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، ولكن خاب الأمل مرةً ثالثةً حين دهمتنا حادثة تفجيرِ برجيِ التجارة في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر من مطلع القرن الحادي والعشرين، والتي دفع الإسلام والمسلمون ثمنها غاليًا، وأُخذ فيها مليار ونصف المليار مسلم بجريرة أفراد لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليدين، فقد استغلَّت هذه الحادثة استغلالًا سلبيًّا في إغراء «الإعلام» الدولي بإظهار الإسلام في صورة الدين المتعطش لسـفك الدِّماء، وتصوير المسلمين في صورة برابرة متوحشين أصبحوا خطرًا داهمًا على الحضارات والمجتمعات المتحضرة، وقد نجح هذا الإعلام في بعث مشاعر الكراهية والخوف في نفوس الغربيين من الإسلام والمسلمين، وسيطرت عليهم حالة من الرُّعب ليس من الإرهابيين فقط، بل من كل ما هو إسلامي جُملةً وتفصيلًا.
 
السَّــيداتُ والســادَة!
 
 
إنَّ «وثيقةَ الأُخوَّة» التي نحتفل بإطلاقها اليوم من هذه الأرض الطَّيِّبة، وُلِدَت على مائدة كريمة كنت فيها ضيفًا على أخي وصديقي العزيز فرنسيس بمنزله العامر، حين أَلقى بها أحد الشَّباب الحاضرين على هذه المائدة المباركة، ولَقيَتْ ترحيبًا واستحسانًا كريمًا من قداسته، ودَعمًا وتأييدًا مِنِّي، وذلك بعد حوارات عِدَّة تأمَّلنا فيها أوضاع العالَم وأحواله، ومآسي القتلى والفقراء والبؤساء والأرامل واليتامى والمظلومين والخائفين، والفارِّين من ديارهم وأوطانهم وأهليهم، وما الذي يُمكن أن تُقدِّمه الأديان الإلهيَّة كطوق نجاة لهؤلاء التعساء، وما أدهشني هو أن هموم قداسته وهمومي كانت مُتطابقة أشد التطابق وأتمه وأكمله، وأن كلًّا منَّا استشعر حرمة المسئولية التي سيحاسبنا الله عليها في الدَّار الآخرة، وكان صديقي العزيز رحيمًا يتألم لمآسي الناس كل الناس. بلا تفرقة ولا تمييز ولا تحـفظ.
 
 
وكان أبرز ما تسالمنا عليه هو:
 
 
أن الأديان الإلهيَّة بريئة كل البراءة من الحركات والجماعات المسلَّحة التي تُسمَّى حديثًا بـ «الإرهاب»، كائنًا ما كان دينها أو عقيدتها أو فكرها، أو ضحاياها، أو الأرض التي تُمارِس عليها جرائمَها المنكَرة.. فهؤلاء قتلة وسفاكون للدِّماء، ومعتدون على الله ورسالاته.. وأن على المسئولين شرقًا وغربًا أن يقوموا بواجبهم في تعقُّب هؤلاء المعتدين والتصدي لهم بكل قوة، وحماية أرواح الناس وعقائدهم ودور عباداتهم من جرائمهم.
 
كما تسالمنا على أن الأديان قد أجمعت على تحريم الدِّماء، وأن الله حرَّم قتل النفس في جميع رسالاته الإلهية: صرخ بذلك موسى عليه السلام في الوصايا العشر على جبل حوريب بسيناء وقال: «لاَ تَقْتُلْ! لاَ تَزْنِ! لاَ تَسْرِقْ!»، ثم صدع به عيسى عليه السلام من فوق جبل من جبال الجليل، بالقرب من كفر ناحوم بفلسطين، «في كنزه الأخلاقي النفيس» الذي يُعرف بـ«موعظة الجبل»، وقد أكَّدَ السيد المسيح ما جاء به موسى، وزاد عليه في قوله: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، فإنَّ مَنْ يَقتل يَسْتَوْجِبَ حُكْم القضاء، أما أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه استوجب حكم القضاء (...) ومن قال له: يا جاهل استوجب نار جهنم»، وجاء محمد ﷺ وأعلن للناس من فوق جبل عرفات في آخر خطبة له تُسمَّى «خطبة الوداع»، أعلن ما أعلنه أخواه من قبله، وزاد أيضًا وقال: «أيُّها النَّاسُ، إنِّي والله ما أدري لعلِّي لا ألقاكم بعدَ يومي هذا، بمكاني هذا، فرحم الله امرءًا سمع مقالتي اليوم فوعاها (...)  أيُّها النَّاسُ، إن دماءَكم وأموالَكم وأعراضكم عليْكُم حرامٌ، كحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، وستلقَونَ ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالِكم (...)، أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ». وكان يقول: «مَن فرَّق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة..»، و: «مَنْ أشارَ إلى أخيهِ بحديدَةٍ، فإِنَّ الملائِكَةَ تلْعَنُهُ، وإِنْ كانَ أخاهُ لأبيهِ وأُمِّه».
 
 
هذا إلى عشرات الآيات القرآنيَّة التي تحرِّم قتل النفس، وتعلن أن مَن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا.
 
وتلاحظون حضراتكم وحدة الخطاب الإلهي ووحدة معناه، بل وحدة المنصَّات التي خطب عليها هؤلاء الأنبياء الكرام، وهي: جبل الطور بسيناء في مصر، وجبل من الجبال في فلسطين، وجبل عرفات بمكَّة في جزيرة العرب..
 
 
ومن هذا يتضح جليًّا أنه ليس صحيحًا ما يُقال من أن الأديان هي بريد الحروب وسببها الرئيس، وأن التاريخ شاهد على ذلك، مِمَّا برَّر ثورة الحضارة المعاصرة على الدِّين وأخلاقِه، وإبعاده عن التدخل في شئون المجتمعات، بعدما سرت هذه الفرية - سريان النار في الهشيم- في وعي الناس والشباب، وبخاصةٍ في الغرب، وكانت من وراء انتشار دعوات الإلحاد والفلسفات الماديَّة ومذاهب الفوضى والعدميَّة والحرية بلا سقف، وإحلال العلم التجريبي محل «الدِّين»، ورُغم ذلك، وبعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على الثورة على الله وعلى الأديان الإلهية جاءت المحصلة كارثية بكل المقاييس، تمثَّلت في مأساوية الإنسان المعاصر التي لا ينكرها إلَّا مكابر.
 
 
والحق الذي يجب أن ندفع به هذه الفرية هو أن أوَّل أسباب أزمة العالَم المُعاصر اليوم إنما يعود إلى غياب الضمير الإنساني وغياب الأخلاق الدِّينيَّة، وتَحكُّم النزعات والشهوات الماديَّة والإلحاديَّة والفلسفات العقيمة البائسة التي ألَّهت الإنسان، وسخرت من الله، ومن المؤمنين به.. واستهزأت بالقيم العليا المتسامية التي هي الضَّابط الأوحد لكبْح جماح الإنسان وترويض «الذئب» المستكنّ بين جوانحه.
 
 
أمَّا الحروب التي انطلقت باسم «الأديان»، وقتلت الناس تحت لافتاتها، فإنَّ الأديان لا تُسأل عنها، وإنما يُسأل عنها هذا النوع من السياسات الطائشة التي دأبت على استغلال بعض رجال الأديان وتوريطهم في أغراضٍ لا يعرفها الدِّين ولا يحترمها، ونحن نُقِرُّ بأن هناك من رجال الأديان مَن تأوَّل نصوصها المقدَّسة تأويلًا فاسدًا، لكنا لا نقر أبدًا بأن قراءة الدين قراءة أمينة نظيفة لا تسمح أبدًا لهؤلاء الضالين المضلين بالانتساب الصحيح إلى أي دين إلهي، ولا تُبرِّر لهم خيانة أمانتهم في تبليغه للناس كما أنزله الله.
 
على أن هـذا الانحراف الموظَّف في فهم النصوص ليس قاصرًا على نصوص الأديان واستغلالها في العدوان على الناس، بل كثيرًا ما يحـدث مثله في أسواق السياسة، حين تُقرأ نصوص المواثيق الدولية المتكفلة بحفظ السلام العالمي قراءة خاصَّة تبرر شنَّ الحروب على دول آمنة، وتدميرها على رءوس شعوبها، ولا مانع بعد أن تقضي هذه السياسات شهواتها العدوانية البشعة.. لا مانع من الاعتذار للثكالى واليتامى والأرامل بأنها أخطأت الحساب والتقدير. والأمثلة على ذلك واضحةٌ وضوح الشمس في رابعة النَّهار.
 
من أجـل ذلك نادينـا في هـذه الوثيقـة «بوقـف استخدام الأديان، والمذاهب، في تأجيج الكراهية والعنف والتعصُّب الأعمى، والكفِّ عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش، وذكَّرنا العالَم كله بأن الله لم يخلق الناس ليُقْتَلوا أو يُعذَّبوا أو يُضيَّق عليهم في حياتهم ومعاشهم... والله- عز وجل- في غنى عمَّن يدعو إليه بإزهاق الأرواح أو يُرهب الآخرين باسمه».
 
 
الحفــلُ الكــريم
 
 إنني على يقين أن هذه المبادرات الضرورية والتحركات الطيبة نحو تحقيق الأخوة الإنسانية في منطقتنا العربية سوف تؤدي ثمارها، وقد بدأت، بحمد الله، بقوة في مصر المحروسة حيث افتتح قبل عدة أيام أول وأكبر مسجد وكنيسة متجاورين، في العاصمة الإدارية الجديدة، وفي خطوة تاريخية، نحو تعزيز التسامح وترسيخ الأخوة بين الأديان، وبمبادرة رائدة من السيد/ الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية.
 
وتبقى لي كلمة أوجهها لإخوتي المسلمين في الشرق، وهي أن تستمروا في احتضان إخوتكم من المواطنين المسيحيين في كلِّ مكان؛ فهم شركاؤنا في الوطن، وإخوتنا الذين يُذكِّرنا قرآننا الكريم بأنَّهم أقرب الناس مـودَّة إلينا، ويعلِّل القرآن هذه المودة بقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة: 82]، فالمسيحيون- كل المسيحيين- قلوبهم مملوءة خيرًا ورأفة ورحمة، والله تعالى هو الذي جعل في قلوبهم هذه الخصال الحميدة.. وهذا ما يسجله القرآن في قوله تعالى في سورة الحديد: ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ [الحديد: 27].
 
 
ويجبُ علينا نحن المسلمين ألا ننسى أن المسيحيَّةَ احتضنت الإسلام، حين كان دينًا وليدًا، وحمته من طغيان الوثنية والشِّرك، التي كانت تتطلع إلى اغتياله في مهده، وذلك حين أمر النبيُّ ﷺ المستضعفين من أصحابه، وهم أكثر تابعيه حين اشتد عليهم أذى قريش وقال لهم: «اذهبُوا إلى الحبشة فإن بها ملكًا لا يُظلم أحدٌ في جواره». وقد استقبلهم هذا الملك المسيحي في دولته المسيحية، وأكرمهم وحماهم من قريش، ثم أعادهم إلى المدينة المنورة بعد أن اشتد عود الإسلام واستوى على سُوقِه.
 
 
وكلمة أخرى لإخوتي المسيحيِّين في الشرق: أنتم جزء من هذه الأُمَّة، وأنتم مواطنون. ولستم أقليَّة، وأرجوكم أن تتخلصوا من ثقافة مصطلح «الأقليَّة» الكريه، فأنتم مواطنون كاملو الحقوق والواجبات، واعلموا أن وحدتنا هي الصخرة الوحيدة التي تتحطم عليها المؤامرات التي لا تفرق بين مسيحي ومسلم إذا جد الجد وحان قطف الثمار.
 
وكلمتي للمواطنين المسلمين في الغرب أنِ اندمجوا في مجتمعاتكم اندماجًا إيجابيًّا، تحافظون فيها على هويتكم الدِّينيَّة كما تحافظون على احترام قوانين هذه المجتمعات، واعلموا أن أمن هذه المجتمعات مسئوليَّة شرعيَّة، وأمانة دينيَّة في رقابكم تُسألون عنها أمام الله تعالى، وإن صدر من القوانين ما يفرض عليكم مخالفة شريعتكم فالجأوا إلى الطُّرق القانونيَّة، فإنها كفيلة بردِّ الحقوقِ إليكم وحماية حريتكم.
 
 
كما أقول لشباب العالَم في الغرب والشرق: إن المستقبل يبتسم لكم، وعليكم أن تتسلحوا بالأخلاق وبالعلم والمعرفة، وعليكم أن تجعلوا من هذه الوثيقة دستور مبادئ لحياتكم، اجعلوا منها ضمانًا لمستقبل خالٍ من الصراع والآلام، اجعلوا منها ميثاقًا بانيًا للخير هادمًا للشر، اجعلوا منها نهاية للكراهية.. عَلِّمُوا أبناءكم هذه الوثيقة فهي امتداد لوثيقة المدينة المنورة، ولموعظة الجبل، وهي حارسة للمشتركات الإنسانيَّة والمبادئ الأخلاقيَّة.. وسوف أعمل مع أخي قداسة البابا، فيما تبقَّى لنا من العُمرِ، ومع كل الرموز الدِّينيَّة من أجلِ حماية المجتمعات واستقرارها، وهنا يجب أن أُشيد بملتقى تحالف الأديان لأمن المجتمعات الذي انعقد هنا في أبو ظبي، نوفمبر الماضي، وحظي بدعمٍ من الأزهر الشَّريف ومن الفاتيكان، وحضره عددٌ من قادة الأديان للقيام بمسئوليتهم من أجل حماية كرامة الطفل.
 
وختامًا:
أتوجَّهُ بالشكرِ الجزيل للأخ الكريم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد على رعايتِه لهذه المبادرةِ التاريخيَّةِ، واحتضانه «وثيقة الأخوَّة الإنسانيَّة» التي نرجو أن يكونَ لها ما بعدها من إقرارِ السَّلام بين الشعوب، وإيقاظ مشاعر المحبَّة والاحترام المتبادَل بين الغربِ والشَّرق وبين الشَّمالِ والجنوب.
 
 
كما أُقدم الشُّكر لسمو الشيخ عبد الله بن زايد، ولكل الشباب المتميز الذي سهر على ترتيب هذا اللِّقاء وتنظيمه وإخراجه بهذه الصورة المشرفة.
 
 
وانطلاقًا من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾، أُسجِّلُ شُكري لجنديين مجهولين كانا وراء إعداد «وثيقة الأخوَّة الإنسانيَّة» من بدايتها حتى ظهورها اليـوم في هـذا الحـدث العالَمي، وهما: ابنـاي العزيزان القاضي/ محمد عبد السلام – المستشار السابق لشيخ الأزهر، والأب يوأنس لحظي جيد- السـكرتير الشخصي لقداسة البابا فرنسيس، فلهما ولكلِّ مَن أسْـهَم في إنجـاح هذا اللقاء خالص الشُّـكر والتقــدير والاحــترام.
 
أشكركم على حُسْنِ استماعكم.
 
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
 
الإمام الأكبر الدكتور أحـمـد الطيب شيخ الأزهر
ندوات ومؤتمرات

اشترك لمتابعة الأخبار

جميع الحقوق محفوظة لموقع الإمام الطيب 2024